الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وأما ما حكى عن بعض المشائخ من قوله: إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه فاستوحنى، فيكشف ما بك من الشدة حيا كنت أو ميتا، فهذا الكلام ونحوه إما أن يكون كذبا من الناقل أو خطأ من القائل؛ فإنه نقل لا يعرف صدقه عن قائل غير معصوم، ومن ترك النقل المصدق عن القائل المعصوم واتبع نقلا غير مصدق عن قائل غير معصوم، فقد ضل ضلالا بعيدا. ومن المعلوم أن الله لم يأمر بمثل هذا، ولا رسله أمروا بذلك، بل قال الله تعالى: وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقل لأحد من أصحابه: إذا /نزل بك حادث فاستوحنى، بل قال لابن عمه عبد الله بن عباس وهو يوصيه: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله). وما يرويه بعض العامة من أنه قال: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى؛ فإن جاهى عند الله عظيم)، فهو حديث كذب موضوع، لم يروه أحد من العلم، ولا هو فى شىء من كتب المسلمين المعتمدة فى الدين؛ فإن كان للميت فضيلة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بكل فضيلة وأصحابه من بعده. وإن كان منفعة للحى بالميت، فأصحابه أحق الناس انتفاعا به حيا وميتا. فعلم أن هذا من الضلال، وإن كان بعض الشيوخ قال ذلك فهو خطأ منه، والله يغفر له إن كان مجتهدا مخطئا. وليس هو بنبى يجب اتباع قوله، ولا معصوم فيما يأمر به وينهى عنه. وقد قال الله تعالى:
وأما قول القائل: من قرأ [آية الكرسي] واستقبل جهة الشيخ /عبد القادر الجيلاني ـ رضي الله عنه ـ وسلم عليه، وخطا سبع خطوات، يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجتـه، أو كـان فى سماع فإنه يطيب ويكثر تواجده، فهذا أمر القربة فيه شرك برب العالمـين، ولا ريب أن الشـيخ عبد القادر لم يقل هذا، ولا أمر به، ومن يقل مثل ذلك عنه فقد كذب عليه، وإنما يحدث مثل هذه البدع أهل الغلو والشرك؛ المشبهين للنصارى من أهل البدع الرافضة الغالية فى الأئمة، ومن أشبههم من الغلاة فى المشائخ. وقد ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها). فـإذا نهى عـن استقبال القبر فى الصلاة لله فكيف يجوز التوجه إليه والدعاء لغير الله مع بعـد الدار؟! وهـل هـذا إلا من جنس ما يفعله النصارى بعيسى وأمه وأحبارهم ورهبانهم فى اتخاذهم إياهم أربابا وآلهة، يدعونهم ويستغيثونهم فى مطالبهم، ويسألونهم ويسألون بهم.
وأما قول من قال: إن الله ينظر إلى الفقراء فى ثلاثة مواطن: عند الأكل، والمناصفة، والسماع، فهذا القول روى نحوه عن بعض الشيوخ قال: إن الله ينظر إليهم عند الأكل؛ فإنهم يأكلون بإيثار، /وعند المجاراة فى العلم؛ لأنهم يقصدون المناصحة، وعند السماع؛ لأنهم يسمعون لله. أو كلامًا يشبه هذا. والأصل الجامع فى هذا: أن من عمل عملا يحبه الله ورسـوله ـ وهـو مـا كان لله بإذن الله ـ فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة. والعمل الصالح هو الخالص الصواب. فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان بأمر الله، ولا ريب أن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والاستماع منها ما يحبه الله، ومنها ما لا يحبه الله، ومنها ما يشتمل على خير وشر، وحق وباطل، ومصلحة ومفسدة وحكم كل واحد بحسبه.
وما يفعله بعض الناس من تحرى الصلاة والدعاء عند ما يقال: إنه قبر نبى، أو قبر أحد من الصحابة والقرابة، أو ما يقرب من ذلك، أو إلصاق بدنه أو شىء من بدنه بالقبر، أو بما يجاور القبر من عود وغيره، كمن يتحرى الصلاة والدعاء فى قبلى شرقى جامع دمشق عند الموضع الذى يقال: إنه قبر هود ـ والذى عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبى سفيان ـ أو عند المثال الخشب الذى يقال: تحته رأس يحيى بن زكريا، ونحو ذلك ـ فهو مخطئ، مبتدع، مخالف للسنة؛ فإن /الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمـة وأئمتها، ولا كانوا يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون عن مثل ذلك، كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب ذلك ودواعيه، وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به، فكيف إذا قصدوا ذلك؟!
وأما قوله: هل للدعاء خصوصية قبول، أو سرعة إجابة بوقت معين، أو مكان معين؛ عند قبر نبى، أو ولى، فلا ريب أن الدعاء فى بعض الأوقات والأحوال أجوب منه فى بعض. فالدعاء فى جوف الليل أجوب الأوقات، كما ثبت فى الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ـ وفى رواية: نصف الليل ـ فيقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له، حتى يطلع الفجر). وفى حديث آخر: (أقرب ما يكون الرب من عبده فى جوف الليل الأخير). والدعاء مستجاب عند نزول المطر، وعند التحام الحرب، وعند الأذان والإقامة، وفى أدبار الصلوات، وفى حال السجـود، ودعـوة الصائم، ودعـوة المسافر، ودعوة المظلوم، وأمثال ذلك، فهذا كله مما جاءت به / الأحاديث المعروفة فى الصحاح والسنن، والدعـاء بالمشاعر، كعـرفة، ومزدلفة، ومنى، والملتزم، ونحو ذلك من مشاعر مكة، والدعاء بالمساجد مطلقا. وكلما فضل المسجد ـ كالمساجد الثلاثة ـ كانت الصلاة والدعاء فيه أفضل. وأما الدعــاء لأجـل كون المكان فيـه قـبر نبى أو ولى، فلم يقـل أحـد مـن سلف الأمة وأئمتها: إن الدعاء فيـه أفضـل مـن غيره، ولكن هـذا مما ابتدعـه بعض أهل القبلة؛ مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين. فأصله من دين المشركين؛ لا من دين عباد الله المخلصـين؛ كاتخاذ القبور مساجد؛ فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولكن ابتدعـه بعض أهـل القبلـة؛ مضاهـاة لمـن لعنهـم رسول الله صلى الله عليه وسلم مـن اليهود والنصارى.
وأما قول السائل: هل يجوز أن يستغيث إلى الله فى الدعاء بنبى مرسل، أو ملك مقرب، أو بكلامه تعالى، أو بالكعبة، أو بالدعاء المشهور باحتياط قاف، أو بدعاء أم داود، أو الخضر، أو يجوز أن يقسم على الله فى السؤال بحق فلان، بحرمة فلان، بجاه المقربين، /بأقرب الخلق، أو يقسم بأعمالهم وأفعالهم؟ فيقال: هذا السؤال فيه فصول متعددة: فأما الأدعية التى جاءت بها السنة، ففيها سؤال الله بأسمائه وصفاته، والاستعاذة بكلامه، كما فى الأدعية التى فى السنن، مثل قوله: (اللهم، إنى أسألك بأن لك الحمد، أنت الله، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم)، ومثل قوله: (اللهم، إنى أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد)، ومثل الدعاء الذى فى المسند: (اللهم إنى أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك). وأما الأدعية التى يدعو بها بعض العامة، ويكتبها باعة الحروز من الطرقية، التى فيها: أسألك باحتياط قاف، وهو يوف المخاف، والطور، والعرش، والكرسى، وزمزم، والمقام، والبلد الحرام، وأمثال هذه الأدعية، فلا يؤثر منها شىء، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا عن أئمة المسلمين، وليس لأحد أن يقسم بهذه بحال، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك). فليس لأحد أن يقسم بالمخلوقات البتة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:/ (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، لما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، وكما قال البراء بن مالك: أقسمت عليك أى رب، إلا فعلت كذا وكذا، وكلاهما كان ممن يبر الله قسمه. والعبد يسأل ربه بالأسباب التى تقتضى مطلوبه، وهى الأعمال الصالحة التى وعد الثواب عليها، ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بنبيه، ثم بعمه، وغير عمه من صالحيهم؛ يتوسلون بدعائه وشفاعته، كما فى الصحيح: أن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ استسقى بالعباس، فقال: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. فتوسلوا بعد موته بالعباس، كما كانوا يتوسلون به، وهو توسلهم بدعائه وشفاعته. ومن ذلك ما رواه أهل السنن وصححه الترمذى: أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرد على بصرى، فأمره أن يتوضأ، ويصلى ركعتين، ويقول: (اللهم، إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبى الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى ليقضيها. اللهم، فشفعه فى)، فهذا طلب من النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له فى توجهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة به إلى الله، فإن / هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته. وأما قول القائل: أسألك أو أقسم عليك بحق ملائكتك، أو بحق أنبيائك أو بنبيك فلان أو برسولك فلان، أو بالبيت الحرام، أو بزمزم والمقام، أو بالطور والبيت المعمور، ونحو ذلك، فهذا النوع من الدعاء لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه، ولا التابعين لهم بإحسان، بل قد نص غير واحد من العلماء، كأبى حنيفة وأصحابه ـ كأبى يوسف وغيره من العلماء ـ على أنه لا يجوز مثل هذا الدعاء، فإنه أقسم على الله بمخلوق، ولا يصح القسم بغير الله، وإن سأله به على أنه سبب ووسيلة إلى قضاء حاجته. أما إذا سأل الله بالأعمال الصالحة وبدعاء نبيه والصالحين من عباده فالأعمال الصالحة سبب للإثابة، والدعاء سبب للإجابة، فسؤاله بذلك سؤال بما هو سبب لنيل المطلوب، وهذا معنى ما يروى فى دعاء الخروج إلى الصلاة: (اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا)، وكذلك أهل الغار الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة. فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم، وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم، موالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم. وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضى حصول مطلوب العبد، وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم وفضله عليهم. وليس /فى ذلك ما يقتضى إجابة دعاء غيرهم، إلا أن يكون بسبب منه إليهم كالإيمان بهم والطاعة لهم، أو بسبب منهم إليه: كدعائهم له، وشفاعتهم فيه، فهذان الشيئان يتوسل بهما. وأما الإقسام بالمخلوق فلا. وما يذكره بعض العامة من قوله: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى، فإن جاهى عند الله عظيم)، حديث كذب موضوع.
وأما قول السائل: هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم رؤى عنده؟ فيقال: بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب، الذين نهينا عن التشبه بهم فيها. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب كان فى السفر فرأى قوما يبتدرون مكانا، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض، وهذا قاله عمر بمحضر من الصحابة. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى أسفاره / فى مواضع، وكان المؤمنون يرونه فى المنام فى مواضع، وما اتخذ السلف شيئا من ذلك مسجدا ولا مزارا. ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات؛ فإنهم لا يزالون يرون النبي صلى الله عليه وسلم فى المنام وقد جاء إلى بيوتهم، ومنهم من يراه مرارا كثيرة، وتخليق هذه الأمكنة بالزعفران بدعة مكروهة. وأما ما يزيده الكذابون على ذلك، مثل أن يرى فى المكان أثر قدم، فيقال: هذا قدمه، ونحو ذلك، فهذا كله كذب. والأقدام الحجارة التى ينقلها من ينقلها ويقول: إنها موضع قدمه كذب مختلق، ولو كانت حقا لسن للمسلمين أن يتخذوا ذلك مسجدا ومزارا، بل لم يأمر الله أن يتخذ مقام نبى من الأنبياء مصلى إلا مقام إبراهيم بقوله: فصخرة بيت المقدس لا يسن استلامها، ولا تقبيلها باتفاق المسلمين، بل ليس للصلاة عندها والدعاء خصوصية على سائر بقاع المسجد. والصلاة والدعاء فى قبلة المسجد الذى بناه عمر بن الخطاب للمسلمين /أفضل من الصلاة والدعاء عندها، وعمر بن الخطاب لما فتح البلد قال لكعب الأحبار: أين ترى أن أبنى مصلى المسلمين؟ قال: ابنه خلف الصخرة. قال: خالطتك يهودية يابن اليهودية! بل أبنيه أمامها؛ فإن لنا صدور المساجد. فبنى هذا المصلى الذى تسميه العامة [الأقصى]. ولم يتمسح بالصخرة ولا قبلها ولا صلى عندها، كيف وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه لما قبل الحجر الأسود قال: والله، إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك. وكان عبد الله بن عمر إذا أتى المسجد الأقصى يصلى فيه ولا يأتى الصخرة، وكذلك غيره من السلف. وكذلك حجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التى فيها نبى أو رجل صالح، لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهى عن ذلك. وأما السجود لذلك فكفر، وكذلك خطابه بمثل ما يخاطب به الرب، مثل قول القائل: اغفر لى ذنوبى، أو انصرنى على عدوى، ونحو ذلك.
وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامة، /أو يعلقون بها خرقـا، أو غير ذلك، أو يأخـذون ورقها يتبركون بـه، أو يصلـون عندها، أو نحو ذلك، فهذا كله من البدع المنكرة، وهو من عمل أهل الجاهلية، ومن أسباب الشرك بالله تعالى، وقـد كـان للمشركين شجرة يعلقون بها أسلحتهم يسمونها [ذات أنواط]، فقال بعض الناس: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: (الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى:
وأصل هذا الباب أنه ليس فى شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة /الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين،ومشاعر الحج.وأما المشاهد التى على القبور، سواء جعلت مساجد أو لم تجعل، أو المقامات التى تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين، أو المغارات والكهوف، أو غير ذلك، مثل [الطور] الذى كلم الله عليه موسى، ومثل [غار حراء] الذى كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه قبل نزول الوحى عليه، و[الغار] الذى ذكره الله فى قوله: وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحوا هذه البلاد بلاد الشام والعراق ومصر وخراسان والمغرب وغيرها لا يقصدون هذه البقاع، ولا يزورونها، ولا يقصدون الصلاة والدعاء فيها، بل كانوا /مستمسكين بشريعة نبيهم، يعمرون المساجد التى قال الله فيها: وفى الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل فى المسجد تفضل على صلاته فى بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة، وذلك أن الرجل إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد، لا ينهزه إلا الصلاة فيه، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة. فإذا جلس ينتظر الصلاة، كان فى صلاة مادام ينتظر الصلاة، فإذا قضى الصلاة فإن الملائكة تصلى على أحدهم مادام فى مصلاه: تقول: اللهم اغفر له،اللهم ارحمه). وقد تنازع المتأخرون فيمن سافر لزيارة قبر نبى أو نحو ذلك من المشاهد. والمحققون منهم قالوا: إن هذا سفر معصية، ولا يقصر الصلاة فيه، كما لا يقصر فى سفر المعصية، كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره، وكذلك ذكر أبو عبد الله بن بطة: أن هذا من البدع المحدثة فى الإسلام، بل نفس قصد هذه البقاع للصلاة فيها والدعاء ليس له أصل فى شريعة المسلمين، ولم ينقل عن السابقين الأولين ـ رضي الله /عنهم وأرضاهم ـ أنهم كانوا يتحرون هذه البقاع للدعاء والصلاة، بل لا يقصدون إلا مساجد الله، بل المساجد المبنية على غير الوجه الشرعى لا يقصدونها ـ أيضا ـ كمسجد الضرار الذى قال الله فيه: بل المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها، وبناؤها محرم، كما قد نص على ذلك غير واحد من الأئمة؛ لما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم فى الصحاح والسنن والمسانيد أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتحذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك). وقال فى مرض موته: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وكانت حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارجـة عن مسجده، فلما كان فى إمرة الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز /ـ عاملـه على المدينـة النبويـة ـ أن يزيد فى المسجد. فاشـترى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت شرقى المسجد، وقبلته، فزادها فى المسجد، فـدخلت الحجـرة إذ ذاك فى المسجد، وبنـوها مسنمة عن سمت القبلة لئلا يصلى أحد إليها. وكذلك [قبر إبراهيم الخليل] لما فتح المسلمون البلاد كان عليه السور السليمانى، ولا يدخل إليه أحد، ولا يصلى أحد عنده، بل كان مصلى المسلمين بقرية الخليل بمسجد هناك، وكان الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، إلى أن نقب ذلك السور، ثم جعل فيه باب، ويقال: إن النصارى هم نقبوه وجعلوه كنيسة، ثم لما أخذ المسلمون منهم البلاد جعل ذلك مسجدا؛ ولهذا كان العلماء الصالحون من المسلمين لا يصلون فى ذلك المكان. هذا إذا كان القبر صحيحا، فكيف وعامة القبور المنسوبة إلى الأنبياء كذب؟! مثل القبر الذى يقال :إنه (قبر نوح)، فإنه كذب لا ريب فيه، وإنما أظهره الجهال من مدة قريبة، وكذلك قبر غيره.
وأما [عسقلان] فإنها كانت ثغرا من ثغور المسلمين، كان صالحو /المسلمين يقيمون بها لأجـل الرباط فى سبيل الله، وهكذا سائر البقاع التى مثل هذا الجنس مثل [جبل لبنان]، و[الإسكندرية]، ومثل [عبادان] ونحـوها بأرض العـراق، ومثـل [قزوين] ونحـوها من البـلاد التى كانت ثغورا، فهذه كان الصالحون يقصدونها؛ لأجل الرباط فى سبل الله؛ فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن سلمان الفارسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رباط يوم وليلة فى سـبيل الله خـير مـن صيام شهـر وقيامـه، ومـن مات مرابطا مات مجاهدا، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان). وفى سنن أبى داود وغيره عن عثمان،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قـال: (ربـاط يوم فى سبيل الله خـير مـن ألف يوم فيما سـواه مـن المنازل). وقـال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. ولهذا قـال العلماء: إن الرباط بالثغور أفضل من المجاورة بالحرمين الشريفين؛ لأن المرابطـة مـن جنس الجهاد، والمجاورة مـن جنس الحج. وجنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمـين مـن جنس الحج، كما قال تعالى: ثم من هذه الأمكنة ما سكنه بعد ذلك الكفار وأهل البدع والفجور، ومنها ما خرب وصار ثغرا غير هذه الأمكنة. والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها. فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا، ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها، كما كانت مكة ـ شرفها الله ـ فى أول الأمر دار كفر وحرب، وقال الله فيها: وهذا أصل يجب أن يعرف، فإن البلد قد تحمد أو تذم فى بعض الأوقات لحال أهله، ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم؛ إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان. قال الله تعالى:
وقد تبين الجواب فى سائر المسائل المذكورة بأن قصد الصلاة والدعاء عندما يقال: إنه قدم نبى، أو أثر نبى، أو قبر نبى، أو قبر بعض الصحابة، أو بعض الشيوخ، أو بعض أهل البيت، أو الأبراج، أو الغيران؛ من البدع المحدثة، المنكرة فى الإسلام، لم يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، بل هو من أسباب الشرك وذرائع الإفك. والكلام على هذا مبسوط فى غير هذا الجواب.
وأما قول القائل إذا عثر: يا جاه محمد! يا للست نفيسة! أو يا سيدى الشيخ فلان! أو نحو ذلك مما فيه استغاثته وسؤاله، فهو من المحرمات، وهـو مـن جنس الشـرك؛ فـإن الميت سـواء كان نبيـا أو غـير نبى لا يـدعى ولا يسأل ولا يستغاث بـه لا عنـد قبره، ولا مع البعد من قبره، بل هذا من جنس دين النصارى الذين
وكذلك النذر للقبور أو لأحد من أهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل، أو للشيخ فلان أو فـلان، أو لبعض أهل البيت، أو غيرهم: نذر معصية، لا يجب الوفاء به باتفاق أئمة الدين، بل ولا يجوز الوفاء به، فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه). وفى السنن عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يبنى على القبور المساجد، ويسرج فيها السرج؛ / كالقناديل والشمع وغير ذلك. وإذا كان هذا ملعونا، فالذى يضع فيها قناديل الذهب والفضة وشمعدان الذهب والفضة ويضعها عند القبور أولى باللعنة. فمن نذر زيتا أو شمعا، أو ذهبا، أو فضة، أو سترا، أو غير ذلك، ليجعل عند قبر نبى من الأنبياء، أو بعض الصحابة، أو القرابة، أو المشائخ، فهو نذر معصية، لا يجوز الوفاء به. وهل عليه كفارة يمين؟ فيه قولان للعلماء. وإن تصدق بما نذره على من يستحق ذلك من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الفقراء الصالحين، كان خيرا له عند الله وأنفع له؛ فإن هذا عمل صالح يثيبه الله عليه، فإن الله يجزى المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين. والمتصدق يتصدق لوجه الله ولا يطلب أجره من المخلوقين، بل من الله تعالى، كما قال تعالى ولهذا لا ينبغى لأحد أن يسأل بغير الله، مثل الذى يقول: كرامة لأبى بكر، ولعلى، أو للشيخ فلان، أو الشيخ فلان، بل لا يعطى إلا من سأل /لله، وليس لأحد أن يسأل لغير الله، فإن إخلاص الدين لله واجب فى جميع العبادات البدنية والمالية كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج فلا يصلح الركوع والسجود إلا لله ولا الصيام إلا لله، ولا الحج إلا إلى بيت الله، ولا الدعاء إلا لله، قال تعالى: وهذا هو أصل الإسلام، وهو ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: هذا كله لأن دين الله بلغه عنه رسوله. فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله تعالى ذم المشركين لأنهم شرعوا /فى الدين ما لم يأذن به الله فحرموا أشياء لم يحرمها الله؛ كالبحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام. وشرعوا دينا لم يأذن به الله؛ كدعاء غيره وعبادته، والرهبانية التى ابتدعها النصارى. والإسلام دين الرسل كلهم أولهم وآخرهم، وكلهم بعثوا بالإسلام كما قال نوح ـ عليه السلام ـ: وقد ثبت فى الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد). فدين الرسل كلهم دين واحد، وهو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر به وشرعه /كما قال:
|